في السابع عشر من أكتوبر الماضي 2024، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن الاشتباه في قتل «يحيى السنوار» رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أثناء الاشتباك معه وعدد من مرافقيه في حي «تل السلطان» جنوب قطاع غزة. ليخرج إعلام الاحتلال بعد ساعات ويؤكد الخبر مع نشر صور للسنوار وهو مُسجى وسط ركام إحدى المنازل، بكوفيته الفلسطينية وسترة قتال، ووجهٍ صارم صلب متحدٍ شامخ حتى في موته.
وبعد ساعاتٍ أخرى، نشر الإعلام العسكري الإسرائيلي مقطعًا مصورًا قِيل إنه صُوّر بواسطة طائرة مسيرة أرسلتها قوات الاحتلال إلى داخل المنزل الذي حُوصر فيه قبل اقتحامه، ليتحول هذا المقطع المصور إلى واحد من أهم المشاهد الأيقونية، ليس فقط في عام 2024، ولكن في التاريخ المعاصر كله دون مبالغة.
يجلس السنوار المصاب على إحدى الأرائك، لثامه على وجهه، يلفظ أنفاسه الأخيرة، يده مصابة تقطر دمًا، وبيده الأخرى عصا ألقاها على الطائرة قبل أن يُقصف المنزل، ويتحول المشهد إلى أسطورة يتأملها الجميع في صمت وإجلال. ليس فقط في الدائرة الفلسطينية، ولا حتى في الدائرة العربية والإسلامية الحاضنة والمؤيدة للمقاومة، ولكن أيضًا على مستوى الدوائر العالمية.
وقد شَبّه بعض الناشطين الغربيين هذا المشهد بمشهد قتل «تشي غيفارا»، الثائر الأرجنتيني في بوليفيا [1]، حتى اليابانيين الذين اعتبروا السنوار كمحاربي الساموراي القدامى [2]. لكنّ الجميع وقف متعجبًا مشدوهاً أمام هذا المشهد السريالي لرجل ستيني يقف بسلاحه وعتاده العسكري محاصرًا وحيدًا يقاتل العشرات من أعدائه المدججين بالسلاح والآليات.
ثم هو القائد لحركة مقاومة تضم عشرات الألوف من المقاتلين، ويتصدر خطوط المواجهة الأمامية في أخطر خطوط التماس في حي «تل السلطان» منذ أن أعلن جيش الاحتلال عن بدء عمليته العسكرية في «رفح» جنوب القطاع [3].
فبعد الهجوم الذي شنته فصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر لعام 2023، والذي شمل الهجوم على فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي ومستوطنات الغلاف، شكّل الحدث الإقليمي والدولي الأبرز. لتشير كل الجهات المعادية والمؤيدة للمقاومة معاً إلى اسم «يحيى السنوار» باعتباره المخطط والمدبر لهذه العملية التي خلطت كل الأوراق وأربكت كل الحسابات.
وبرز على الساحة سؤال كان مبكرًا جدًا لكنه كان الأبرز والأكثر تداولًا على اختلاف مواقع واتجاهات من يطرحونه: هل نجحت عملية طوفان الأقصى؟ هل حققت المقاومة انتصاراً؟
ولكي نناقش هذا السؤال على اختلاف صيغه، لابد من تفكيك إجابته على مستويين:
لا بد أولاً من الاتفاق على تعريف الحرب نفسها، والتي لا نجد أفضل من تعريف المؤرخ الحربي والجنرال البروسي «كارل فون كلاوزفيتز» الذي عرّف الحرب باعتبارها: «استمرارًا للسياسة بوسائل أخرى» [4].
فالحرب هي إرادة وأهداف سياسية، إما تُفرض أو تُكسر بالعنف والقتال.
ثم نتفق على مدخل لفهم طبيعة الكيان الذي وُجهت العملية العسكرية ضده «إسرائيل»، والتي لا يمكن التعامل معها باعتبارها «دولة» بالمفهوم السياسي أو حتى الجغرافي والديموغرافي الذي نعرفه. فلا يمكن فهم الكيان «الإسرائيلي» إلا باعتباره جيبًا استعماريًا استيطانيًا يؤدي دورًا وظيفيًا [5] لكيانات استعمارية لفترة وإمبريالية لفترة أخرى.
هذا الكيان، الذي تأسس على استقطاب مجموعة دينية غير متجانسة للهجرة إلى بقعة من الأرض، بُني في الأصل على صيغة تعاقدية بين الداعين للهجرة (المؤسسين الأوائل) والمستهدفين بالهجرة. فإذا كانت دولة «إسرائيل» المزعومة لا تمتلك دستورًا [6]، فإن هذه الصيغة التعاقدية مثلت الدستور والميثاق الرابط والداعم لهذا الكيان، والذي سيُعرف فيما بعد باسم «نظرية الأمن الإسرائيلي»، والتي اعتبرها الدكتور رشاد الشامي: (محورًا وجوديًا يحدد سلوك الإنسان الإسرائيلي) [7].
تلك النظرية التي أسهب الدكتور عبد الوهاب المسيري في تقصي جذورها العقدية والتاريخية بقوله:
«كان سكان الجيتو –اليهودي– ينظرون للعالم الخارجي نظرة شك عميقة تستند إلى الثنائية الحادة التي تسم رؤية الجماعات الوظيفية للعالم. والصهيونية تتبنى هذه النظرة، فهي تنطلق من ثنائية اليهود والأغيار، والتي تتبدى في نظرية الأمن الإسرائيلي كما تتبدى في كل الفكر الاستراتيجي الصهيوني الذي يصدر عن هذا الشك العميق في الأغيار..»[8]
فإن اتفقنا على مفهوم للحرب باعتبارها فرضًا أو كسرًا لأهداف وإرادة سياسية بالإجبار، واعتبرنا الكيان الصهيوني جيبًا استيطانيًا بُني على صيغة تعاقدية اصطلح عليها باسم «نظرية الأمن الإسرائيلي» تقوم على عدة أسس ومحددات، فإن استطاعت العملية العسكرية كسر وتحطيم محددات وأسس هذه النظرية، فإننا نتحدث عن انتصار يتخطى الخسائر المادية والبشرية ليصل إلى الأساس الذي بُني عليه هذا «الكيان»، والذي يمكن اعتباره المعول الأول لتفكيكه.
ولتطبيق هذا التصور على السؤال محل المناقشة، لابد من إحداث مقاربة لمشهدي أكتوبر، السادس من عام 1973م، والسابع من عام 2023م.
فقد كان التوجيه الاستراتيجي لحرب السادس من أكتوبر، الصادر من الرئيس الراحل «أنور السادات» إلى وزير دفاعه المشير «أحمد إسماعيل» في الأول من أكتوبر لعام 1973، كالآتي:
«إن الهدف الاستراتيجي الذي أتحمل المسؤولية الاستراتيجية في إعطائه للقوات المسلحة: تحدي نظرية الأمن الإسرائيلي، وذلك عن طريق عمل عسكري يكون هدفه إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالعدو، وبالتالي فإن نظريته في الأمن، على أساس التخويف النفسي والعسكري والسياسي، ليست درعًا من فولاذ يحميه الآن وفي المستقبل».[9]
وهو نفس المعنى الذي سيؤكد عليه «السادات» في مذكراته «البحث عن الذات»، في حديثه عن نظرية الأمن الإسرائيلي باعتبارها: «أسطورة سقطت بحرب أكتوبر».[10]
فإن كانت حرب أكتوبر على المستوى العملياتي لم تحقق السيطرة إلا على شريطٍ ضئيل شرق قناة السويس، وكانت الخسائر البشرية والمادية متقاربة إلى حدٍ كبير، إلا أن انتصارها الحقيقي كان على المستوى السياسي والاستراتيجي بكسر فكرة الحدود الآمنة والردع العسكري والسياسي باعتبارها أبرز محددات نظرية الأمن الإسرائيلي.
وكان هذا ما عبّر عنه السياسي والصحفي المخضرم الأستاذ «محمد حسنين هيكل» أثناء الحرب نفسها، حين كتب في 19 أكتوبر 1973 يقول: «إن هدف إسرائيل من الحرب الآن هو إنقاذ نظرية الأمن الإسرائيلي».[11]
أما المفكر والمنظر الاستراتيجي وأستاذ الجغرافيا السياسية الدكتور «جمال حمدان» فقد اعتبر في كتابه «6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية» أن أهم نتائج حرب أكتوبر هي: (تصدع نظرية الأمن الإسرائيلي). وعلى مستوى قادة وصناع الحرب، نجد قائد عمليات حرب أكتوبر ووزير الدفاع فيما بعد المشير «عبد الغني الجمسي» قد حدد الاستراتيجية العسكرية المصرية للحرب بأنها بُنيت على أساسين: دروس حرب 67 وتحدي نظرية الأمن الإسرائيلي.
وهو نفس السياق الذي سيؤكد عليه الفريق «كمال حسن علي»، وزير الدفاع ورئيس المخابرات في سبعينات القرن الماضي، والذي شغل منصب مساعد وزير الحربية أثناء الحرب، في مذكراته «مشاوير العمر»، بقوله: «وسقطت نظرية الأمن الإسرائيلي، فلا الحدود الآمنة استطاعت أن تحميها، ولا الردع الذي حاولت تحقيقه استطاع أن يداويها في محنتها..».[13]
وهكذا، ووفقاً لهذه المقاربة، وكما اعتبر «هنري كيسنجر»، وزير خارجية الولايات المتحدة إبان أكتوبر 73، أن حرب أكتوبر قد حققت هدفها في اليوم الأول وهو كسر نظرية الأمن الإسرائيلي [14]، نستطيع أن نقول إن عملية «طوفان الأقصى» قد حققت أهدافها وانتصرت المقاومة في اليوم الأول بتحطيم نظرية الأمن الإسرائيلي، لا نقول حتى تقويضها.
فإن حددنا نظرية الأمن الإسرائيلي وفقاً لأربعة محاور رئيسة:
وباختبار المحاور الأربعة وفقاً لما حدث في السابع من أكتوبر، نجد أن «الحدود الآمنة» والداخل الإسرائيلي المحمي والمأمون قد انهار باقتحام المقاومة لمستوطنات غلاف غزة [15]. وبالتالي، سقط وهم الإنذار المبكر والتفوق الاستخباري الذي عجز عن كشف العملية قبل حدوثها.
أما الردع والمبادرة، فإن «إسرائيل» لم تعد بعد ما حدث دولة رادعة يخشاها خصومها، ويمكن لعدة مئات من المقاتلين أن يبادروا بالهجوم عليها، واجتياز حدودها، واحتجاز مواطنيها كأسرى.
يمكن أن نقول إن أي مجموعة تقاتل من أجل التحرير لابد أن تكون صاحبة قضية قبل أن تكون صاحبة بندقية، والقضية لا تكون إلا بسردية من الأفكار والقيم يحملها الفاعلون ويتبناها الحاضنون والمؤيدون، فتكون الراية التي يتجمعون حولها. ولن تنجح هذه السردية في جذب المؤيدين والفاعلين إلا إذا انتقلت من التنظير إلى الفعل ومن الشعار إلى الواقع.
ويمكن أن نناقش كيف فرضت المقاومة الفلسطينية سرديتها القائمة على الصمود والتحدي بوجه المحتل، والتضحية والفداء المتخطية لكل معاني النُبل والشجاعة. لكن في حقيقة الأمر، أن مشهد استشهاد القائد «يحيى السنوار» جسّد كل سردية المقاومة في مشهد تخطى حدود الزمان والمكان واللغات والأعراق، ليختصر عشرات السنين من نضال الشعب الفلسطيني ضد طغمة استعمارية مدعومة من كل قوى الاستكبار الدولي.
كل القيم رسمها مشهد واحد صامت حين تراه، لكنه بألف كلمة ومعنى يمكن أن تُقال أو تُكتب: التضحية حين تكون من الرأس والقائد، الشجاعة التي تتحدى البطش، الصمود حتى العصا الأخيرة والرمق الباقي.
لذا يمكن أن نقول إن عملية «طوفان الأقصى» انتصرت فكرتها وسرديتها يوم ضحى السنوار بنفسه شهيدًا، ورسم بدمه شعار القضية وسرديتها.
# طوفان الأقصى # فلسطين # حرب غزة # يحيى السنوار # منحة أبو الغيط للكتاب 2025